في بداية سبعينات القرن العشرين، خططت عقولٌ فذةٌ وعملت أذرعٌ ماهرةٌ لإنجاز حفلٍ لم يكن له مثيلٌ سابقٌ وقد لا يكون له شبيهٌ لاحق. شعر حضور حفل القرن أنهم دخلوا سحر الأجواء الفارسية العجيبة لحكايات ألف ليلةٍ وليلة، وكان شعورُهم في محله، فما شاهدوه في ذلك الحفل لم يكن بالإمكان وصفه باستخدام الكلمات التي تصف عالم الواقع
لمحة تاريخية عن حفل القرن الأسطوري
خلال الفترة من الثاني عشر حتى الرابع عشر من شهر أكتوبر من عام 1971، بدأ احتفال القرن بذكرى مرور ألفين وخمسمائة عامٍ على تأسيس الإمبراطورية الفارسية. أقيم الحفل وسط آثار مدينة بيرسيبوليس القديمة قرب ضريح كورش العظيم مؤسس الإمبراطورية. لم يكن الأمر مجرد احتفالٍ عادي، بل كان حدثاً استثنائياً بكل المقاييس. لقد أراد الشاه محمد رضا بهلوي -ومن ورائه الأسرة الحاكمة- أن يُريَ العالم أنه أسس لعصرِ نهضةٍ حقيقيٍّ للأمة الإيرانية، وأن يُظهِرَ الوجهَ الجديدَ لإيران كدولةٍ حديثةٍ عظيمةٍ تزخر بثروةٍ نفطيةٍ هائلة يمكن أن تجعلها في مصاف الاقتصادات الأضخم دولياً، وقد وصف الشاهُ الحدثَ بكل ثقةٍ بأنه أضخم حفلٍ تمت إقامته على وجه الأرض. لقد أثارت عظمة الحفل جدلاً عالمياً حول المكانة الدولية المرموقة التي يُنتظَر للإمبراطورية الإيرانية أن تحتلها في المستقبل القريب. ضم الحفل عدداً ضخماً من كبار الشخصيات على مستوى العالم، من رؤساء وملوك وأباطرة وأمراء وشيوخ ورؤساء وزارات وممثلين دبلوماسيين رفيعي المستوى، وقد يكون هذا مما أثار حفيظة أعداء الشاه وأوغر صدورهم، فتوجهوا بالنقد اللاذع للحفل بحجة بذخه اللامعقول.
منشآتٌ عظيمةٌ تليق احتفال القرن التاريخي
أراد الشاه حفلاً مختلفاً كلياً عما ألِفَته البشرية على مر عصورها، فكان له ما أراد. أقيمت مدينةٌ من الخيام في الصحراء قرب آثار مدينة بيرسيبوليس العظيمة فكانت واحةً أقربَ إلى الخيال منها إلى الحقيقة. ضمت مدينةُ الخِيام خمسينَ خيمةً مسبقة الصنع من القماش الإيراني الفاخر مخصصةً لكبار ضيوف الحفل، كلٌّ منها تشكل جناحاً فارهاً على درجةٍ ساحرةٍ من الأناقة والتنظيم، وقد أوكلَت مهمة تصميم وتنفيذ الخيام إلى فريقٍ من خيرة المصممين والمعماريين الفرنسيين. تألفت كل خيمةٍ من غرفتين للنوم وحمامين ومكتبٍ وصالةٍ تتسع لاثني عشر شخصاً، وجميعُ الخيامِ مؤثثةٌ بأرقى أنواع الأثاث الأوربي، وتم تزويد خيمةِ كلِّ ضيفٍ بخطوطٍ للهاتف والتلكس على اتصالٍ مباشرٍ مع بلده.
تم ترتيب الخِيام بشكل نجمةٍ تحيط بنافورة مياهٍ مركزيةٍ رائعة، وكانت الخيمة الرئيسية بمساحةٍ تفوق ألفاً وستمائة مترٍ مربع. زُرِعَ حول تجمُّع الخِيام عددٌ كبيرٌ من الأشجار ونباتات الزينة شكلت غابةً اصطناعيةً صغيرةً، وذلك بعد إجراء استصلاحٍ باهظ التكاليف لأرض المنطقة. أُطلِقَ في الغابة الاصطناعية خمسون ألفاً من العصافير المغردة المستوردة من أوربا، مما جعل تلك الغابة جنةً حقيقيةً آسرةً للحواس. تم رش الغابة بالكامل بالمبيدات بواسطة الطيران الزراعي، وذلك للتخلص من جميع أشكال الحشرات والزواحف ضماناً لراحة وسلامة ضيوف الحفل
زُودت مدينةُ الخِيام بملعبٍ للجولف وبمطارٍ صغيرٍ، وتم استخدام مائتين وخمسين سيارة حديثة فارهةً حمراءَ اللون من نوع مرسيدس – بنز لنقل الضيوف من وإلى المطار. تم كذلك تزويد المدينة بخدمات البنية التحتية وفق أعلى المعايير العالمية، ووُصِلَت المدينة بالعاصمة طهران عبر طريقٍ سريعٍ بطول حوالي 1000 كيلومتر.
هكذا كان مطبخ احتفال القرن الأسطوري
تم تجهيز مطبخٍ عملاقٍ بكل المقاييس لإعداد الطعام من أجل الحفل، وقد احتوى تجهيزاتٍ ذات تقنيةٍ على أرفع المستويات تم جلبها بالكامل من باريس. بدأ التحضير لإنشاء المطبخ في صيف عام 1970، ولغرض إعداد الطعام والمشروبات تعاقد المنظمون مع مطعم ماكسيمز الباريسي الذي كان يُعتبر حينها المطعم الأشهر في العالم، وقد أكد مدير المطعم ثقته بأن ذلك الحفل لم يكن فقط أضخم حفلٍ شهده في حياته، بل كان أكبر حفلٍ في تاريخ البشرية. قام طباخو ماكسيمز المهرة بتحضير ما يقارب ثمانية عشر طناً من أفخر أنواع المأكولات، وقدّموا أكثر من مائة كيلوجرام من الكافيار الإيراني الفاخر ذي الشهرة العالمية.
تمت طباعة قائمة مأكولات المأدبة على أوراق البارشمان النفيسة، وشملت القائمة الكثير من الأطباق الفاخرة القائمة على لحوم الضأن والبقر والأسماك والجمبري والمحار والكثير من أنواع الطيور البرية والداجنة وأبرزها الطاووس الإمبراطوري.
أما في مجال المشروبات، فقد قام مطعم ماكسيمز بتكليف واحدٍ من أفضل ذواقةِ الخمور في فرنسا للقيام بتذوق عيناتٍ من كل ما تم تقديمه من المشروبات لضمان أعلى مستويات الجودة، وشملت قائمة المشروبات أفخر الماركات العالمية من الشامبانيا والكونياك والنبيذ الأحمر والأبيض. تم تبريد المشروبات باستخدام الثلج، ولكن من أين يمكن الحصول على الثلج في الصحراء؟ لهذا الغرض قام المنظمون بجلب مكعبٍ جليديٍّ بحجم سيارةٍ شاحنة كبيرة, وقد تم نقله جواً إلى قلب الصحراء. النبيذ الأحمر الذي تم تقديمه كان معتقاً يعود إلى عام 1945، أما الكونياك فكان يعود إلى عام 1860 أي إلى أكثر من مائةٍ وعشر سنواتٍ من تاريخ الحفل.
وهكذا كان احتفال القرن الأسطوري المُبهر
لقد تم الاعتناء بأدق تفاصيل الحفل بشكلٍ يضمن له دخول التاريخ كحدثٍ قد لا يتكرر مطلقاً، وكمثالٍ على ذلك فقد كانت المائدة المخصصة لضيوف الشرف ذات تصميمٍ استثنائيٍ بالتواءاتٍ أفعوانية الشكل، وبلغ طولها حوالي سبعين متراً، ولزم لإنجازغطائها فائقِ الأناقة عملُ مائةٍ وخمسٍ وعشرينَ فنانةً متخصصةً بالتطريز لمدة ستةِ أشهرٍ كاملة. تناول ستمائة ضيفٍ الطعام على مأدبة عشاءٍ استمرت لحوالي خمس ساعاتٍ ونصف مما جعلها أطول وأفخم مأدبة رسميةٍ في التاريخ الحديث وفق ما ذُكِرَ في كتاب غينيس للأرقام القياسية.
تضمن الحفلُ عرضاً عسكرياً مَهيباً شاركت فيه تشكيلاتٌ عسكريةٌ ضخمةٌ من الجيش الإيراني، ارتدى الجنود خلالها الملابس العسكرية وتقلَدوا الأسلحة والدروع التي تمثل جميع المراحل التاريخية للجيش منذ تأسيس الإمبراطورية الفارسية حتى العصر الحديث. تم بث أحداث الحفل والعرض العسكري بثاً تلفزيونياً مباشراً إلى جميع أصقاع الأرض عبر اتصالٍ بالأقمار الاصطناعية، وهو ما كان حينها باهظ الكلفة جداً. قام بالتصوير والإخراج التلفزيوني فريقٌ محترفٌ من هوليوود، وقام بالتعليق على النسخة الانكليزية الممثل الأميركي ذائع الشهرة أورسون ويلز.
جمعَ الحفل حاكمين يتبعان لاثنتين من أقدم ثلاث سلالاتٍ مالكةٍ في العالم، أحدهما هو الشاه صاحب الحفل، والآخر هو هيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا، واللافت للانتباه أن كلا السلالتين لم يعد لهما وجودٌ في نهاية عقد السبعينات. قام الأمير الياباني ميكاسا بتمثيل أخيه الإمبراطور شووا في الحفل. تلقت الملكة إليزابيث الثانية نصيحةً من مسؤولي الأمن لديها بعدم حضور الحفل لأسبابٍ أمنيةٍ فأنابت عنها زوجها دوق أدنبرة وابنتها الأميرة آن.
مما زاد من مظاهر الترف في الحفل أن نسبةً كبيرةً من الحضور كانوا من الطبقات المخملية فاحشة الثراء، فازدان الحفل بأفخر أنواع الحرير والديباج، وخطف الأبصارَ تلألؤ الماس والياقوت واللآلئ الطبيعية، عدا عن التاج الرائع الذي اعتمرته الشاهبانو (زوجة الشاه)، والذي كان مرصعاً بقطعٍ من الزمرد تقارب بحجمها حجمَ كرةِ الجولف، مع أحجارٍ من الماس أصغر من ذلك بقليل.
كلمة أخيرة
كان حفل القرن حدثاً ضخماً بشكلٍ لا يُصدق، وقد تحدثت عنه قنوات الإعلام المقروء والمسموع والمرئي على مستوى العالم، وبلغت ضخامته درجةً يُرجَحُ معها أنه كان من أهم أسباب قيام ثورة الخميني التي لم تُسقط فقط حكمَ الشاه، بل أدت أيضاً إلى تغيير مسار تاريخ منطقة الشرق الأوسط بأكملها. وفي النهاية، ورغم كل اللغط الذي أثاره الحفل، إلا أنه كان أقرب إلى أساطير الشرق القديم منه إلى الحقيقة المُعاشة، سلب ألباب من حضروه ونال إعجاب ملايين البشر عبر الزمان والمكان، وهو بذلك يستحق أن يصنف ضمن أكثر الأحداث فخامةً عبر التاريخ.
نرحب بأي اقتراحٍ يُثري المقالَ أو تعديلٍ يصوِّب ما يُحتمل أنه وقع من خطأ