إن كنتَ معماراً وأردتَ أن تبني بيتاً أو ترفعَ بُرجاً أو تنشئ صرحاً، فلربما وصلتَ إلى درجةٍ من الكمالِ تعلو أو تنخفض تبعاً لِهِمَّتِك؛ أما أن تكتب ببنائكَ صفحةً من صفحات التاريخ، فذلك شيءٌ مختلفٌ تماماً، لا تنالُه إلا إذا وصل بناؤكَ حدَّ الكمال؛ ولهذا كان حقاً لبُناةِ قصر كورسيني دخولُ التاريخِ من أوسعِ أبوابه عبر ذلك الصرح العظيم الذي أبدَعَتْهُ أفكارهم قبلَ أيديهم.

ليس من الغريب أن تتملَّكك الدهشة لدى دخولِكَ حدود هذا القصر الذي جَعَلَهُ بُناتُهُ تحفةً من التحفِ تبهرُ الأبصارَ بشكلها وتسلبُ الألبابَ بمضمونها. تُشرف واجهة القصر على حديقةٍ غنَّاء تكتسي بغطاءٍ أخضرَ خلَّابٍ تزينه أشجار النخيل فتعطيه لمسةً من السحر الآسر للأنظار. ولا يتوقف سحر المكان عند حدود روعة الطبيعة وأصالة فنون العَمارة، وإنما يتعداها إلى عراقة الكنوز التي يحتويها ذلك البناء الذي كان يوماً يشكلُ مَحَجّاً للعائلات الأوربية النبيلة. إذ يشعر الزائر فورَ دخوله بوابة القصر أنه قد دخل باباً سحرياً يعود به مئات السنين في سفرٍ أُسطوريٍّ عبر الزمن.
لمحة تاريخية عن قصر كورسيني:
في عام 1736 قام الكاردينال الفلورنسي نيري ماريا كورسيني (ابن أخ البابا كليمنت الثاني عشر) بشراء الأرض التي سيقيم عليها قصر أحلامه، وكان آنذاك مُقاماً عليها قصرٌ قديمٌ يُعرَف باسم (قصر عائلة رياريو) الذي كان بين عامي 1659 و1689 يشكل مقراً للملكة كريستينا، ملكة السويد التي اشترت القصر وجعلته مقراً لها بعد أن تَنَحَّت عن منصبها وانتقلت للعيش في روما. حافظَ الكاردينال على البناء القديم لقصر رياريو، وأوكل مهمة بناء القصر الجديد إلى واحدٍ من أبرز المعماريين الإيطاليين في عصره، وهو المعمار فيرديناندو فوجا، الذي قام بإنشاء القصر على النمط الباروكي الذي كان يشكل قمة الترف المعماري، وقد ظهر هذا الفن أول مرة في روما في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر الميلادي، وتميز الأسلوب الباروكي بالضخامة وغناه بالتفاصيل المثيرة. تمتد الفترة الباروكية من عام 1600 حتى حوالي عام 1750، وهي فترةٌ تميزت بطفرة فنية في مجالات العمارة والفنون الجميلة والموسيقى، وتتميز العمارة الباروكية باعتمادها المكثف على الزخرفة مما يجعلها تتألق بمستوى صارخ من الفخامة. يمكن للزائر أن يكوّن فكرةً عامةً ويشعر بثراء ومدى روعة هذا الصرح الجميل ورقيّ ذائقة صانعيه، من خلال قيامه بجولةٍ عبر الرّواق والاستمتاع بالوقوف أمام لوحاته ومعروضاته التي تتدلى على جنبي جدرانه وصولاً إلى قاعة استقبال زوار الكاردينال.
ماذا عن متحف قصر كورسيني؟
يَشْغلُ المتحف الطابقَ الأولَ من قصر كورسيني المشيَّد وفق الطراز المعماري الباروكي، ويشكل قِبلةً لعشاق الفنون الجميلة من مختلف أنحاء العالم. يزخر المتحف -كباقي أجزاء القصر- بتفاصيل معماريةٍ في غاية الروعة، وبقاعاتٍ فسيحةٍ تسمح بدرجةٍ عاليةٍ من حرية الحركة لعددٍ كبيرٍ من الزوار في آنٍ واحد. من الأشياء التي تدهش الزائر وتُثيرُ شغفَهُ لتكرارِ زيارة القصر عموماً والمتحف خصوصاً، هي البراعة والدقة المتناهية في صناعة الأثاث الذي روعِيَت في صناعتهِ أدقُّ التفاصيل الفنية.
في عام 1883 وضعت الدولة الإيطالية يدها على قصر كورسيني بكلِّ ما فيه من محتويات، وفي عام 1895 تم افتتاح المتحف في أقدم جزءٍ من المبنى، والذي يضم جناح الملكة كريستينا. يعرض متحف كورسيني للفنون مجموعة مقتنيات الكاردينال نيري ماريا كورسيني إلى جانب العديد من المعروضات الأخرى التي كانت تعود ملكيتها أساساً إلى عائلة كورسيني المشهورة بعشقها للفنون الجميلة وبامتلاكها واحدةً من أكبر المجموعات الفنية في أوربا، مما يعطي الزوارَ أوسعَ فكرةٍ ممكنةٍ حول الفن الإيطالي في القرن السابع عشر. ومن بين أفراد عائلة كورسيني الذين يحتوي المتحف بعض مقتنياتهم كان البابا كليمنت الثاني عشر (اسمه قبل البابوية هو لورينزو كورسيني)، كما يحتوي أيضاً مقتنياتٍ تم الحصول عليها من العديد من جامعي التحف المشهورين. توجد في المتحف مجموعةٌ هامةٌ من اللوحات لعددٍ كبيرٍ من مشاهير الفنانين الإيطاليين خلال الفترة الممتدة من بداية عصر النهضة حتى أواخر القرن الثامن عشر. ومن أبرز اللوحات في المتحف:
“القديس فرنسيس في الصلاة” (1606) لكارافاجيو ثلاثية – أنيبال كاراتشي (1604–05) عائلة باربيريني المقدسة “(1528) بقلم أندريا ديل سارتو لوحة (القديس يوحنا المعمدان)، وهي من إبداع الفنان الشهير كارافاجيو عام 1600.
- لوحة (القديس يوحنا المعمدان)، وهي من إبداع الفنان الشهير كارافاجيو عام 1600.
- عائلة باربيريني المقدسة “(1528) بقلم أندريا ديل سارتو
- ثلاثية – أنيبال كاراتشي
- “القديس فرنسيس في الصلاة” (1606) لكارافاجيو
مكتبة كورسيني للكتاب المقدس
تعدّ مكتبة كورسيني للكتاب المقدّس من أبرز أجنحة المتحف، وهي تحتوي عدداً كبيراً من المخطوطات والمطبوعات التي يتعلق معظمُها بالكتاب المقدس، رغم وجودِ كتبٍ أخرى ذات طبيعةٍ علميةٍ أو أدبية.
لقد كان البابا كليمنت الثاني عشر معروفاً بعقليته المنفتحة وتَقَبُّلِهِ للأفكار العصرية، لذلك احتوت مكتبته الكثيرَ من الكتب في أحدث فروع العلوم الطبيعية واللاهوتية في عصرها، بما في ذلك بعض الكتب التي كان يوصف محتواها بالهرطقة، وبناءً عليه فقد تم وضعُها في ذلك الوقت ضمن قائمة الكتب المحظورة.

تشكِّل مكتبة متحف كورسيني دُرةً فنيةً قَلَّ نظيرها، حيث تزدان بالكثير من التفاصيل المميِّزة للعصر الباروكي في الأعمدة والتيجان والتماثيل النصفية، وتُزيِّنُ سقفَ المكتبة لوحاتُ الفريسكو الرائعة التي تنطقُ بصمتٍ كثيراً من قصصِ الكِتاب المقدس، والتي لا تقل روعةً عن إبداعاتِ مايكل أنجلو قبلها بمئات السنين عندما نفَّذ ببراعةٍ رسومَ سقفِ كنيسةِ السيستين “الذي يعتبر العمل الفني الرئيس الذي يمثل عصر النهضة”.
كيفيَّة زيارة متحف كورسيني:
يفتح المتحف أبوابه للزوار يوميًا من الساعة الثانية ظهراً حتى الساعة السابعة والنصف مساءً، ويُستَثنى من ذلك دوام يوم الأحد الذي يبدأ في الثامنة والنصف صباحاً. العطلة الأسبوعية للمتحف هي يوم الثلاثاء، أما عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة فهي تبدأ في الخامس والعشرين من ديسمبر وتنتهي في اليوم الأول من يناير.
على الرغم من عظمة هذا المتحف وما يحتويه من القطع التي لا تقدّر بثمن، لكنّ أبوابه تُفتح للزوار بأسعار تذاكر رمزيّةٍ هي كما يلي:
سعر تذكرة الدخول إلى متحف كورسيني 12 يورو، مع صلاحية لمدة عشرة أيام.
سعر تذكرة الدخول المخفضة هو 6 يورو، مع صلاحية لمدة عشرة أيام، وهي مخصصة لمواطني الاتحاد الأوربي الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً.
كما يمكن للزوار من بعض الفئات دخول متحف كورسيني مجاناً، بما فيهم الزوار الذين لا تتجاوز أعمارهم الثامنة عشرة، ومجموعات طلاب المدارس مع مدرسيهم (يجب الحجز مسبقاً)، والباحثون في تاريخ الفنون، والعاملون في أكاديميات الفنون الجميلة، وذوو الاحتياجات الخاصة.
من خلال بحثنا نرى أن متحف قصر كورسيني للفنون الجميلة هو من الوجهات السياحية الرائعة التي تستحق الزيارة لكل من يخطط للسفر إلى روما. إذا كنتم ممن زاروا المتحف أو ممن يخططون لزيارته، نرجو إطلاعنا على تجربتكم،كما نرحب بأي اقتراحٍ لكم في هذا السياق، أو أي تعديلٍ على ما ورد ذكره.