لا شكَّ أنَّ تعبيرَ المادَّة المضادَّة هو أكثرُ التعابيرِ غرابةً في أفلامِ ورواياتِ الخيالِ العلميِّ، ولكنْ، هل هناكَ ما هو مضادٌّ للمادة؟ بمعنى آخر، هل للمادةِ أعداء؟ يا لغرابةِ الفكرة!
بالنسبةِ إلى الذينَ قرؤوا روايةَ دان براون ذائعةِ الصيتِ (ملائكة وشياطين)، وحتى بالنسبةِ إلى أولئكَ الذينَ شاهدوا الفيلمَ السينمائيَّ المبنيَّ على الروايةِ ذاتها والذي قامَ ببطولتهِ الممثلُ الشهيرُ توم هانكس، لا تحتاجُ المادَّةُ المضادَّةُ أيَّ مقدِّماتٍ للتعريفِ بها، فهيَ في الروايةِ مادَّةٌ تشكِّلُ سلاحاً خطيراً بإمكانهِ تدميرُ الفاتيكانِ التي تشكِّلُ رأسَ الهرمِ في تراتبيَّةِ المسيحيةِ الكاثوليكية.
ما هي المادة المضادة؟
بعيداً عن أجواءِ الرواياتِ وأضواءِ السينما، المادَّةُ المضادَّةُ في الحقيقةِ هي المادةُ المعاكسةُ تماماً للمادةِ العاديَّةِ التي نراها في العالم مِنْ حَولِنَا. إنَّ المادَّةَ المضادَّةَ من حيثُ الجوهرِ تعملُ تماماً كما لو كانت عدواً للمادةِ العاديَّة، فلو حدثَ أيُّ لقاءٍ بين المادَّةِ ومُضادِّها فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى فناءِ كلٍّ منهُما في عمليةٍ تعطي جسيماتٍ دون ذريةٍ متناهيةٍ في الصغرِ تسمى النيوترينوهات، وكميَّةً هائلةً من الطاقةِ على شكلِ أشعَّةِ جاما، وأحياناً أزواجاً أصغر حجماً من المادةِ ومضادِّها.

بعد اكتشافِها في النصفِ الأولِ من القرنِ العشرين، شكَّلَ موضوعُ المادَّةِ المضادَّةِ حقلاً نشطاً للكثيرِ منَ البحوثِ العلميَّةِ الطَّموحةِ التي تكلِّفُ مبالغَ خياليةً بسببِ التقنياتِ العالية جداً التي تُستَخدَمُ في ذلك المجال. إنَّ أغربَ حقيقةٍ تُحيطُ بموضوعِ المادَّةِ المضادَّةِ هي أنَّ تلكَ المادَّةَ ورغمَ أنَّها من الناحيةِ النظريةِ توأمٌ حقيقيٌّ للمادةِ العاديةِ إلا أنَّها غيرُ موجودةٍ في أيِّ مكانٍ من الكون، وهي بذلكَ تشكِّلُ هدفاً صعبَ المنالِ جداً في مجالِ فيزياءِ الجسيمات.
ملحمةُ المادَّةِ المضادَّة
إن المادَّةَ المضادَّةَ قديمةٌ قِدَمَ الكونِ ذاتهِ، وقصَّتُها مع المادَّةِ العاديَّةِ تُشبهُ قصةَ روميو وجولييت، ففي الحكايتينِ يَحمِلُ لقاءُ الطرفينِ بذورَ فنائِهِما. لقد طُرِحَ مفهومُ المادَّةِ المضادَّةِ عام 1928 من قِبَلِ بول ديراك، وبعدَ ذلكَ بأربعِ سنواتٍ تمَّ أوَّلُ اكتشافٍ لجسيمٍ مُضادٍّ في التاريخ، وذلك من قِبَلِ العالِمِ كارل أندرسون، ومِنَ الطَّريفِ أنْ نَعرفَ أنَّ اسمَ المادَّةِ المضادَّةِ قد وَرَدَ قَبْلَ ذلكَ التاريخِ بكثيرٍ، فقَدْ صاغَهُ آرثر شوستر في رسالتينِ تحملانِ أفكاراً استنتاجيَّةً مجرَّدةً أرسَلَهُما إلى المجلةِ العلميَّةِ البريطانيةِ الشهيرةِ Nature عام 1898، أي قَبْلَ ثلاثينَ عاماً من صياغةِ نظريةِ المادَّةِ المُضادَّة. وأغربُ مِنْ ذلكَ أنَّ تعبيرَ “ المادَّة المُضادَّة” رَغْمَ وُجودِهِ مُسْبَقاً لكنَّهُ لَمْ يُستَخْدَمْ مِنْ قِبَلِ بول ديراك عندما صاغَ نظريَّتَه.

يعتقدُ علماءُ الفيزياءِ أنَّ المادَّةَ المُضادَّةَ نَشَأَتْ بكمِّيَّاتٍ مساوِيَةٍ تقريباً لكمِّيَّاتِ المادَّةِ العاديةِ لدى ولادةِ الكون. لقد أُجْرِيَتْ حِساباتٌ فيزيائيَّةٌ رياضيةٌ معقدةٌ كانت نتيجَتُها أنَّهُ بعدَ ولادةِ الكونِ مباشرةً أو في نهايةِ الحقبةِ التضخُّميَّةِ كما يُطلَقُ عليها، كانَ هناكَ اختلافٌ دقيقٌ للغايةِ بينَ عددِ جسيماتِ المادَّةِ العاديةِ وعددِ جسيماتِ المادَّةِ المُضادَّةِ المتولِّدة، اختلافٌ يَصْعُبُ جداً تخيُّلُه، حيث يقدَّرُ أنَّهُ نَشَأَ عشرةُ ملياراتِ جسيمٍ وجسيمٌ واحدٌ من المادةِ مُقابلَ كلِّ عشرةِ ملياراتٍ من جسيماتِ المادَّةِ المُضادَّة.
هنا يأتي الجزءُ الأكثرُ إثارةً منَ السيناريو: لقدِ التَقَتْ مُعظَمُ كميَّةِ المادَّةِ المُضادَّةِ معَ مقدارٍ مُماثِلٍ منَ المادةِ العاديةِ فأَفْنَى بعضُها بَعْضاً، وبِما أنَّ كميَّةَ المادَّةِ العاديَّةِ تزيدُ على كميَّةِ المادَّةِ المُضادَّةِ بتلكَ النِّسبَةِ متناهيةِ الضآلة، لذلكَ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ المادَّةِ العاديَّةِ ما يكفي لإعطاءِ كاملِ الكونِ القابلِ للرَّصد.
إنتاجٌ طبيعيٌّ للمادة المضادة

للدِّقَّةِ العلميَّةِ، المادَّةُ المُضادَّةُ هي جزيئاتٌ دونَ ذريةٍ تتشابَهُ مع نظيراتِها من المادَّةِ العاديَّةِ لكنَّها تُخالِفُها في الشحنةِ الكهربائيَّة، وأكثرُ الجسيماتِ المُضادَّةِ شُيوعاً هي البوزترونات (Positrons)، وهي الجسيماتُ المُضادَّةُ للإلكترونات، وكذلك الجسيماتُ المُضادَّةُ للنيوترينوهات. تتولَّدُ البوزترونات بشكلٍ طبيعيٍّ مِنْ خِلالِ ما يُسمَّى (انحلال بيتا) الذي تتعرَّضُ لهُ الموادُّ النَّشِطةُ إِشعاعيّاً. كذلكَ تتولَّدُ مضاداتُ النيوترينو عبرَ انحلالٍ طبيعيٍّ مُشابه. لقد اكتشفَ علماءُ جمعيةِ الفضاءِ الأميركيةِ (AAS) وُجودَ آثارٍ ضئيلةٍ للبوزيترونات في سُحُبِ العواصِفِ الرَّعديَّة. كذلكَ تبيَّنَ عَبْرَ المسابيرِ الفضائيَّةِ الموضوعةِ في مداراتٍ حول الأرضِ وُجودُ البوزيترونات وبعض مضادات البروتونات بكميَّةٍ ﻻ تتجاوزُ نِسبَتُها 1 % من مُجمَلِ الإشعاعاتِ الكونية. إِنَّ أضخَمَ مصدرٍ طبيعيٍّ معروفٍ للمادَّةِ المُضادَّةِ هو الثقوبُ السوداءُ والنُّجومُ النيوترونيةُ التي تُنْتِجُ البوزيترونات بكميَّاتٍ ضخمةٍ ضِمْنَ بلازما من الإلكترونات والبوزيترونات.
إنتاجُ المادة المُضادة في المَخْبَر
يَتِمُّ إنتاجُ تلكِ الجسيماتِ المُضادَّةِ اصطناعيّاً في مسرِّعاتِ الجسيماتِ وكذلكَ تتولَّدُ كناتجٍ ثانويٍّ للتفاعلاتِ النُّووية. يُمكِنُ الحصولُ على الظروفِ المواتيةِ لإنتاجِ المادَّةِ المضادَّةِ في المسرِّعاتِ مِنْ خِلالِ تَمريرِ شعاعِ ليزرٍ ذي طاقةٍ عاليةٍ جداً عَبْرَ مَلَفَّاتٍ رقيقةٍ من الذهب، كما يمكنُ أن تتكوَّنَ المادَّةُ المُضادَّةُ مِنْ خِلالِ إجراءِ تصادماتٍ عاليةِ الطاقةِ للجسيماتِ دونَ الذريَّةِ وذلك ضِمْنَ مسرِّعاتِ الجُسيمات.

إنَّ أوَّلَ إنتاجٍ للمادَّةِ المُضادَّةِ في التاريخِ كانَ عامَ 1995 في مسرِّع الجُسيماتِ سيرن (CERN) في سويسرا. وللدِّقَّةِ، تَمَّ حينَها إنتاجُ تسعِ جُسيماتٍ مُضادَّةٍ للهيدروجين. لقد كانَ الناتِجُ حينَها ذا حرارةٍ أعلى بكثيرٍ مِنْ أن يتمكَّنَ الفيزيائيونَ من دِراسَتِه، فكان عليهِمُ الانتظارُ حتى عام 2002 حينَ تمَّ إنتاجُ الهيدروجين المضاد البارد من قِبَل مشروعِ أثينا (ATHENA Project)، ولكنَّ عمليةَ التبريدِ كانت ذاتَ مردودٍ منخفضٍ جداً لا يتجاوزُ 0.1 %.
هناكَ العديدُ من الخياراتِ المتاحةِ اليومَ إلَّا أَنَّ أياً مِنها لا يبدو واعداً بِما يكفي لضمانِ توفُّرِ المادَّةِ المُضادَّةِ على نطاقٍ واسع.
تكاليفُ ماليَّةٌ لا يُمكِنُ تصوُّرُها
إنَّ المادَّةَ المُضادَّةَ شديدةُ النُّدرةِ وهيَ بِلا شَكٍّ أغلى مادة في الكون. يَقولُ العلماءُ أنَّ المادَّةَ المُضادَّةَ كانَتْ مُتوفِّرةً نِسبياً لدى نشوءِ الكون (وسنقول “هذا الكون” تجنُّباً للوقوعِ في جدليَّاتِ الفيزياءِ الكونيَّة)، ولكنْ بسببِ علاقَتِها المدمِّرةِ مع المادة، لم تبقَ منَ المادَّةِ المُضادَّةِ اليومَ إلَّا نسبةٌ ضئيلة جداً مِنْ مُجمَلِ مادَّةِ الكون.

حتَّى يَومِنا هذا، أكبرُ إنتاجٍ اصطناعيٍّ للمادَّةِ المُضادَّةِ يَجري ضِمْنَ المسرِّعِ CERN الذي تصلُ طاقَتُهُ الإنتاجيَّةُ القصوى إلى عشرةِ ملايينِ بروتونٍ مُضادٍّ في الدقيقة. بهذا الرقم، وحتى لو افترَضْنا أنَّ كفاءةَ العمليَّةِ تصل إلى 100 %، سيَلزَمُ للمسرِّعِ مائةُ مليارِ سنةٍ لإنتاجِ جرامٍ واحدٍ من الهيدروجين المُضادِّ *. إِنَّ هذه العمليةَ التخيُّليَّةَ لإنتاجِ جرامٍ واحدٍ من الهيدروجين المُضادِّ ستُكلِّفُ الجهةَ المشغِّلةَ للمسرعِ CERN مبلغاً يُقدَّرُ بحوالي 62.5 تريليون دوﻻر أميركي، ويعني هذا أن المادَّةَ المُضادَّةَ ليسَتْ فقط أغلى شيءٍ في العالم، وإنما أيضاً أغلى مادة في الكون وفي التاريخِ البشري.
ما هي الفوائدُ المرجوَّةُ من أبحاثِ المادَّةَ المُضادَّة؟
إنَّ أغراضَ البحث في المادَّةِ المُضادَّةِ تختلفُ من باحثٍ إلى آخَر، ولكنَّ مِنَ المؤكَّدِ أنَّ المادَّةَ المُضادَّةَ ستكونُ لها تطبيقاتٌ عاليةُ الأهميَّةِ بالنسبةِ للحضارةِ البشرية. إنَّ أبرزَ هدفٍ من أهدافِ بحوثِ المادَّةِ المُضادَّةِ اليومَ يتمثَّلُ في إمكانيَّةِ إيجادِ مَصدَرٍ جديدٍ للطَّاقةِ النَّظيفة، ورغمَ أنَّ هذا الهدفَ لا يَزالُ بعيدَ المنالِ إلَّا أنَّ تحقيقَهُ سيضمنُ تأمينَ مصدرِ طاقةٍ لا ينضُب، وهذا ضروريٌّ جداً لمستقبلِ البشرِ على الأرضِ (أو لحضاراتٍ بشريةٍ مُستقبليةٍ بينَ – كوكبيَّة أو بينَ – نجميَّة)، كما قد يُستفادُ من المادَّةِ المُضادَّةِ كمصدرٍ للطاقةِ العاليةِ جداً التي تتطلَّبُها الرحلاتُ بين – النجميَّة المستقبلية.

يقدِّرُ الفيزيائيونَ أن كيلوجراماً واحداً منَ المادَّةِ المُضادَّةِ سيُعطينا مع كيلوجرامٍ واحدٍ من المادةِ العاديَّةِ طاقةً تُقدَّرُ بحوالي 43 مليون طن من مادة TNT المتفجِّرة. تقتربُ هذه القيمةُ من طاقةِ القنبلة الهيدروجينية السوفييتية Tsar Bomba التي تَزِنُ 27 طناً وتُعادِلُ طاقتُها 50 مليون طن من مادة TNT المتفجرة، علماً أنَّ هذه القنبلة هي أقوى قنبلةٍ نوويةٍ حراريةٍ تمَّ صُنعُها في التَّاريخ، وانفجارُها كانَ أقوى انفجارٍ من صُنْعِ البَشَر. إِنَّ هذه الطاقةَ الهائلةَ للمادَّةِ المُضادَّةِ يُمكِنُ أن تُبرِّرَ مَخاوفَ البَعضِ مِنْ إِمكانيَّةِ استخدامِها كسلاحِ دمارٍ شاملٍ رهيب، ولكنْ لِحُسْنِ الحظِّ فالبشريَّةُ لا زالت بعيدةً جداً عن إمكانيةِ تحقيقِ ذلك. إِنَّ المادَّةَ المُضادَّةَ هي بلا شكٍّ أغلى مادة في الكون اكتُشِفَتْ حتَّى الآن، ومِنْ أكثَرِ المُكتَشَفاتِ إثارةً نظراً لنُدرَتِها الشديدةِ والإمكانياتِ اللامحدودةِ لاستخداماتها وصعوبةِ الحصول عليها والتي تقتربُ مِنْ حدودِ المستحيل. كلُّ هذه الأسباب تجعلُ من المادَّةِ المُضادَّةِ شيئاً لا مَثيلَ لَهُ بينَ كلِّ ما ألِفْناهُ من مواد على الأرض أو حتى ما اكتشفناهُ في مختلفِ أصقاعِ الكون.
في النهاية، نستطيعُ جميعاً أن نتخيَّلَ بسهولةٍ ارتداءَ خاتمٍ من الماسِ الثمين، ولكنَّ مِنَ العسيرِ جداً أن نتخيَّلَ ارتداءَ خاتمٍ من المادَّةِ المُضادَّة. قد يتحقَّقُ ذلكَ في المستقبلِ البعيد جداً فيصبح في يومٍ من الأيامِ آخرَ صيحاتِ الموضة، …. مَنْ يدري؟!
إذا أعجبَكُمُ الموضوعُ فَسَتُسعِدُنا مشاركتُكُمْ، وَسيكونُ لنا مزيدُ الشَّرَفِ لاشتراكِكُمْ مَعَنا لكي تَبْقوا على تواصُلٍ مع عالمٍ من الخيالِ والإثارة.
* إنَّ الهيدروجينَ المضاد والبروتونَ المضاد هُما اسمانِ لشيءٍ واحد.