رائعٌ أن تعيش قصةَ حبٍ تمتد على مدى حياتك، أما أن تصنعَ رمزاً لقصة حبٍ تعيش على مدى التاريخ، فهذا شيء مختلفٌ تماماً. ساعة ماري أنطوانيت هي ذلك الرمز العابر لصفحات الزمن.
لقد جعلت الملكةُ الشهيرة ماري أنطوانيت حياتَها مغرقةً في الرفاهية، وقد كان قصرها في فرساي مثارَ إعجابٍ واستنكارٍ عالميين لما فيه من مظاهر الترف والرخاء الفاحش. فقد بلغ انصرافُ الملكة إلى حياة الرفاهية والملذات حداً جعلها تُهمِلُ تماماً شؤونَ فقراءِ شعبها الذين كانوا يشكلون غالبيةً عظمى في المجتمع مما أشعل غضباً جماهيرياً عارماً أدى عام 1793 إلى إعدام الملكة ماري وزوجها الملك لويس بالمقصلة.
جذبَ جمالُ الملكةِ وسحرُها الكثيرَ من المعجبين رغم كونِها متزوجةً، وكان من بين هؤلاء الكونت هانز آكسيل فون فيرسين. لقد وقع ذلك العاشق المتيَّم في حيرةٍ شديدةٍ حول الطريقة التي يمكن أن يلفت بها نظرَ امرأةٍ تمتلك كل ما في الدنيا من مقوِّمات الرفاهية والقوة. وجدَ الكونت حلاً للمعضلة من خلال تعاقده مع صانع ساعاتٍ سويسريٍ شهيرٍ هو السيد أبراهام لويس بريجيت لصنعِ ساعةٍ مذهلةٍ بكل المعايير.
لقد بلغَتْ النتيجةُ النهائيةُ من التعقيدِ والجمالِ حداً يفوقُ الوصف، فقد تضمنت تلك الساعة ذات القياس 60 ملم عدداً من الوظائف بلغ 23 وظيفةً مختلفةً من خلال تركيبٍ داخليٍ يشمل ما لا يقلُّ عن 823 قطعةً ميكانيكية. وبناءً على طلبِ الكونت فقد تمَّ صُنْعُ الغلافِ الخارجيِّ للساعة من الذهب عيار 18 قيراطاً، كما دخلت المعادنُ النفيسةُ في تركيب جميع القطع الممكنة.
يعدّ الثواني واللحظات
أدرك الكونت أن مجردَ ساعةٍ عاديةٍ لم تَكُنْ لِتَلفِتَ انتباهَ الملكة الحسناء، لذلك فقد أعطى تعليماته لصانع الساعات السويسري بتضمينِ الساعةِ كل وظائف التوقيت التي كانت متاحةً حينها.
إذ تَضَمَّنَتِ ساعة ماري أنطوانيت الوظائفَ التالية:
- ساعة توقيت كلاسيكية.
- تقويم ثابت.
- نظام تنبيه يعمل على فواصل زمنية محددة تتدرج من الساعة حتى الدقيقة.
- مقياس حرارة.
- ساعة توقف.
- نظام خاص لامتصاص الصدمات (من ابتكارات بريجيت).
- نغمة رنين.
- عقرب مستقل للثواني.
ورغم كل تلك الوظائف في ساعة ماري أنطوانيت إلا أن قراءات جميع الوظائف كانت تظهر على وجهٍ واحدٍ من وجوه الساعة، وبالتالي لم يكن يتوجبُ على الملكةِ أن تقلب الساعة إلى وجهها الآخر للحصول على أيَّةِ قراءة.
لقد تم إبرازُ مدى تعقيدِ آلية الساعة من خلال جَعْلِ جزءٍ من المسنناتِ يَظهرُ على الوجهِ الأمامي للساعة مُبرزاً مدى روعةِ عملِها.
يبدو أنَّ ثروةَ الكونت كانت بضخامةِ عشقه وهذا ما سَمَحَ للصانعِ السويسريِ باستخدامِ الياقوت لمَلءِ الفراغات بين الأجزاءِ المتحركةِ من الساعة. لم تحاول الشركة الصانعةُ بتاتاً الاقتصادَ في نفقاتِ صنعِ الساعةِ الأسطورةِ، وتُظهِرُ سجلاتُ الشركة أن تكاليفَ التصنيعِ بلغَتْ حوالي 30000 فرنك فرنسي، وكان ذلك المبلغ ضخماً للغاية بمقاييس تلك الحقبة، وهو يبلغ حوالي ستةِ أضعافِ ثمنِ ثاني أغلى منتجات بريجيت (الساعة ذات الرقم 92) التي بيعت لدوق براسلين بمبلغٍ قَدْرُهُ 4800 فرنك فرنسي.
لا وقتَ للحُب:
لم يحدِّد الكونت العاشق وقتاً لإنهاءِ العملِ على الساعة، وكان هذا من حُسنِ الحظ، فقد اضطُرَّ الصانعُ السويسري إلى الفرارِ من فرنسا إبَّان الثورةِ الفرنسيةِ وعاد إلى بلده سويسرا ليعمل هناك على متابعةِ صُنعِ الساعة الأسطورة.
بعد وفاة الصانع أبراهام لويس بريجيت تمكَّنَ ابنهُ لويس أنتون بريجيت مِن إتمامِ العملِ على آلية الساعة في عام 1827، وهذا يعني – للأسف – أَنَّ الملكةَ ماري أنطوانيت لم يُقَدَّرْ لها أن تُبديَ إعجابها بتلك الساعةِ الرائعةِ، فقد انتهى صُنعُها بعدَ وفاةِ الملكةِ بأربعةٍ وثلاثينَ عاماً.
لقد لاقت ساعة ماري أنطوانيت صدىً كبيراً لدى كبار جامعي التُّحفِ في العالم، وقد انتقلَتْ مُلكيَّتُها بين العديدِ منَ الجامعينَ والمتاحفِ حتى وصلَتْ عام 1960 إلى متحف ماير للفن الإسلامي في القدس، وبعدَ ثلاثةٍ وعشرينَ عاماً من ذلك التاريخِ تمَّتْ سَرِقَةُ الساعةِ من المتحف.
الساعة النُسخة: إحياءٌ لذكرى الأسطورة
لقد شكَّلَت سرقةُ ساعة ماري أنطوانيت صدمةً كبيرةً لكُلٍّ من التاريخ الثقافي الفرنسي وعاشقي الساعات حول العالم. في عام 2004 قرر السيد نيكولاس حايك رئيس مجموعة سووتش أن يضعَ شركةَ بريجيت الحديثة التابعة لمجموعتهِ في مواجهةِ تحدٍّ عظيم تمثَّل بصناعةِ ساعةٍ هي نسخةٌ طِبقُ الأصلِ عن الساعةِ العظيمةِ ماري أنطوانيت. قَبِلَتِ الشركةُ التحديَ، ولكنَّ عدمَ وجودِ مخططاتٍ تفصيليةٍ لبنية الساعة الأصلية جعل شركة بريجيت في مواجهةِ مهمةٍ صعبةٍ للغاية، فقد كان عليها تصنيع كلِّ قطعةٍ من الصفرِ دون معرفة مدى تطابقها مع نظيرتها الأصلية، وذلك من خلال العودة إلى القليل من الرسوم القديمة غير التفصيلية وبعض الملاحظات القليلة التي دوَّنها أبراهام لويس وابنه.
قامت الشركة بإعطاءِ الساعةِ الجديدةِ الرمزَ (بريجيت 1160) لتمييزها عن الساعة الأصلية (بريجيت 160) ولَزِمَ لإنجازها أربعةٌ وأربعونَ شهراً، وهو نفس عدد السنين التي لَزِمَتْ لإتمام تُحفةِ بريجيت الأصلية.
تقديراً للملكة ماري أنطوانيت التي كانت مُعجَبَةً بشدةٍ بمُنتَجاتِ بريجيت، قامت الشركةُ بصُنعِ صندوقٍ خشبيٍّ للساعةِ من خشب شجرةِ البلوط التي كانت المفضَّلةَ لدى الملكةِ في فِرساي. ولمْ يَكُنْ صُنْعُ الصندوقِ أقلَّ فخامةً وعظَمةً من ساعة ماري أنطوانيت ذاتها، فقد صُنْعِ من 3500 قطعةٍ خشبيةٍ محفورة، وصُمِّمِ الشكلُ الخارجيُّ ليُحاكيَ شكلَ أرضيةِ الباركيه داخل القصر الصغير الذي أهداه الملك لويس لزوجته الشابةِ فورَ اعتلائهما عرشَ فرنسا. عند فتحِ الصندوقِ الرئيسيِ يَظهرُ داخلَهُ صندوقٌ أصغرُ يحملُ غطاؤهُ رسماً يُمَثِّلُ يدَ الملكةِ وهي تحملُ وردة. تمَّ صُنْعُ الرسمِ بطريقة الخشب المُطَعَّمِ بأكثر من ألفِ قطعةٍ تشكلُ الرسمَ بطريقةٍ فُسيفسائية. لقد قام السيد حايك بضربِ ستارٍ من السريَّةِ على تطوير الساعةِ حتى نهاية العملِ عليها، حيث كُشفَ النقابُ عنها عام 2007 ضِمنَ أضخمِ معرضٍ للساعات والمجوهرات في العالم.
لصٌّ يسرق التاريخ
إن وجود ناسٍ تهتمُّ بإعادةِ رمز الحبِّ الأبديِّ إلى الحياةِ جعلَ السعادةَ تغمرُ الأوساطَ المهتمةَ بموضوعِ الساعةِ على مستوى العالم، ولكن مصيرَ ساعة ماري أنطوانيت الأصليةِ ظلَّ لغزاً محيراً. لقد اكتشف المحققون أن أرملة اللص الشهير نيمان ديلر حاولت بيعَ بعضِ مسروقاته عبرَ شركةٍ صغيرةٍ في لوس أنجلس، وأقرَّتِ المرأةُ خلالَ الاستجوابِ أنَّ زوجَها اعترفَ لها بسرقةِ الساعةِ وهو على فراش الموت، وهكذا انتهت حكاية قضيةٍ أرَّقت لسنواتٍ طويلةٍ الكثيرَ من المحققين وهواةِ التحفِ النادرة.
أخيراً تمَّتْ إعادةُ الساعةِ إلى متحف ماير، وتقدَّرُ قيمتها الحاليةُ بحوالي ثلاثينَ مليونَ دولارٍ أميركي، ولكن على لصوصِ التحف أن يدركوا حقيقةَ أن الساعةَ الأسطورة محفوظةٌ الآن في المتحف ضمن منصةِ عرضٍ محكمةِ الإغلاقِ ومقاومةٍ للرصاص.
يتم تلميعُ الساعةِ بشكلٍ دوري، ويقال أنها تتوهَّجُ بعظَمَةٍ خلَّابةٍ للعقولِ تحت أضواءِ المتحف، وهي لا زالت شاهداً على قصةِ حُبٍ رائعةٍ أبطالها ملكةٌ وعاشقٌ متيَّمٌ وصانعُ ساعاتٍ جسد حبهما بالذهب والكريستال والمسننات.
مراجع: